فصل: الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده

قد بينا لك فيما سلف أن الملك والدول غاية للعصبية وأن الحضارة غاية للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس‏.‏ كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمراً محسوساً‏.‏ وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط‏.‏ فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضاً كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها‏.‏ وذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها‏.‏ والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه كالصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل‏.‏ وللتأنق في كل واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التأنق فيها‏.‏ وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها‏:‏ أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها‏.‏ وبيانه أن المصر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل‏.‏ وقد كنا قدمنا أن المصر الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجاته‏.‏ ثم تزيدها المكوس غلاء لأن كمال الحضارة إنما تكون عند نهاية الدولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ كما تقدم‏.‏ والمكوس تعود على البياعات بالغلاء لأن السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ماينفقونه حتى في مؤونة أنفسهم فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها‏.‏ فتعظم نفقات أهل الحاضرة وتخرج عن القصد إلى الإسراف‏.‏ ولا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العوائد وطاعتها وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر‏.‏ ويقل المستامون للبضائع فتكسد الأسواق وتفسد حال المدينة‏.‏ وداعية ذلك كله إفراط الحضارة والترف‏.‏ وهذه مفسدتها في المدينة على العموم في الأسواق والعمران‏.‏ وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها‏.‏ فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه‏.‏ وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوض عليه واستجماع الحيلة له فتجدهم أجرياء على الكذب والمقامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والرباء في البياعات‏.‏ ثم تجدهم لكثرة الشهوات والملاذ الناشئة عن الترف أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي الأرحام والمحارم الذين تقتضي البداوة الحياء منهم في الإقذاع بذلك‏.‏ وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله‏.‏ ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة‏.‏ ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم ممن أهمل عن التأديب وأهملته الدولة من عدادها وغلب عليه خلق الجوار والصحابة وإن كانوا أصحابه أهل أنساب وبيوتات‏.‏ وذلك أن الناس بشر متماثلون وإنما تفاضلوا وتمايزوا بالخلق واكتساب الفضائل واجتناب الرذائل‏.‏ فمن استحكمت فيه صبغة الرذيلة بأي وجه كان وفسد خلق الخير فيه لم ينفعه زكاء نسبه ولاطيب منبته‏.‏ ولهذا تجد كثيراً من أعقاب البيوت وذوي الأحساب والأصالة وأهل الدول منطرحين في الغمار منتحلين للحرف الدنية في معاشهم بما فسد من أخلاقهم وما تلونوا به من صبغة الشر والسفسفة‏.‏ وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ‏"‏‏.‏ ووجهه أن مكاسبهم حينئذ لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم‏.‏ وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة وخربت‏.‏ وهذا معنى ما يقوله بعض أهل الخواصي‏:‏ أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب حتى إن كثيراً من العامة يتحامى غرس النارنج بالدور تطيراً به وليس المراد ذلك ولا أنه خاصة في النارنج وإنما معناه أن البساتين وإجراء المياه هو من توابع الحضارة‏.‏ ثم إن النارنج والليم والسرو وأمثال ذلك مما لا طعم فيه ولا منفعه هو من غايات الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تغرس إلا بعد التفنن في مذاهب الترفة وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه كما قلناه‏.‏ ولقد قيل مثل ذلك في الدفلى وهو من هذا الباب إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلون البساتين بنورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب الترف‏.‏ ومن مفاسد الحضارة أيضاً الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها‏.‏ ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط فيفضي ذلك إلى فساد النوع‏:‏ إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا فيجهل كل واحد ابنه إذ هو لغير رشدة لأن المياه مختلطة في الأرحام فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع أو يكون فساد النوع بغير واسطة كما في اللواط إلى انقطاع النوع أو يكون فساد النوع بغير واسطة كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع إذ هو يؤدي إلى أن لا يوجد النوع‏.‏ والزنا يؤدي إلى عدم ما يوجد منه‏.‏ ولذلك كان مذهب مالك رحمه الله في اللواط أظهر من مذهب غيره ودل على أنه أبصر بمقاصد الشريعة واعتبارها للمصالح‏.‏ فافهم ذلك واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف وأنه إذا بلغ غايتة انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات‏.‏ بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك‏.‏ والحضري لا يقدر على مباشرة حاجاته إما عجزاً لما حصل له من الدعة أو ترفعاً لما حصل له من المربى في النعيم والترف‏.‏ وكلا الأمرين ذميم‏.‏ وكذلك لا يقدر على دفع المضار واستقامة خلقه للسعي في ذلك‏.‏ والحضري بما قد فقد من خلق البأس بالترف والمربى في قهر التأديب والتعليم فهو لذلك عيال على الحاميه التي تدافع عنه‏.‏ ثم هو فاسد أيضاً في دينه غالباً بما أفسدت منه العوائد وطاعتها وما تلونت به النفس من ملكاتها كما قررناه إلا في الأقل النادر‏.‏ وإذا فسد الإنسان فى قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة‏.‏ وبهذا الاعتبار كان الذين يتقربون من جند السلطان إلى البداوة والخشونة أنفع من الذين يتربون على الحضارة وخلقها‏.‏ وهذا موجود في كل دولة‏.‏ فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم من العمران والدول‏.‏ والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن لا

  الفصل التاسع عشر في أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانتقاضها

قد استقرينا في العمران أن الدولة إذا اختلت وانتقضت فإن المصر الذي يكون كرسياً لسلطانها ينتقض عمرانه وربما ينتهي في انتقاضه إلى الخراب ولا يكاد ذلك يتخلف‏.‏ والسبب فيه أمور‏:‏ الأول‏:‏ أن الدولة لا بد في أولها من البداوة المقتضية للتجافي عن أموال الناس والبعد عن التحذيق‏.‏ ويدعو ذلك إلى تخفيف الجباية والمغارم التي منها مادة الدولة فتقل النفقات ويقصر الترف‏.‏ فإذا صار المصر الذي كان كرسياً للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة ونقصت أحوال الترف فيها نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر لأن الرعايا تبع للدولة فيرجعون إلى خلق الدولة‏:‏ إما طوعاً لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم أو كرهاً لما يدعو إليه خلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال وقلة الفوائد التي هي مادة العوائد فتقصر لذلك حضارة المصر ويذهب منه كثير من عوائد الترف‏.‏ وهي معنى ما نقول في خراب الأمر الثاني‏:‏ أن الدولة إنما يحصل لها الملك والاستيلاء بالغلب وإنما يكون بعد العداوة والخروب‏.‏ والعداوة تقتضي منافاة بين أهل الدولتين وتكثر إحداهما على الأخرى في العوائد والأحوال‏.‏ وغلب أحد المتنافيين يذهب بالمنافي الأخر فتكون أحوال الدولة السابقة منكرة عند أهل الدولة الجديدة ومستبشعة وقبيحة‏.‏ وخصوصاً أحوال الترف فتفقد في عرفهم بنكير الدولة لها حتى تنشأ لهم بالتدريج عوائد أخرى من الترف فتكون عنها حضارة مستأنفة‏.‏ ‏.‏ وفيما بين ذلك قصور الحضارة الأولى ونقصهما ومعنى اختلال العمران في المصر‏.‏ الأمر الثالث‏:‏ أن كل أمة لا بد لهم من وطن هو منشأهم ومنه أولية ملكهم‏.‏ وإذا ملكوا وطناً آخر تبعاص للأول وأمصاره تابعة لأمصار الأول‏.‏ واتسع نطاق الملك عليهم‏.‏ ولابد من توسط الكرسي بين تخوم الممالك التي للدولة لأنه شبه المركز للنطاق فيبعد مكانه عن مكان الكرسي الأول وتهوي أفئدة الناس إليه من أجل الدولة والسلطان فينتقل إليه العمران ويخف من مصر الكرسي الأول‏.‏ والحضارة إنما هي بوفور العمران كما قدمنا فتنتقص حضارته وتمدنة وهو معنى اختلاله‏.‏ وهذا كما وقع للسلجوقية في عدولهم بكرسيهم عن بغداد إلى أصبهان وللعرب قبلهم في العدول عن المدائن إلى الكوفة والبصرة ولبني العباس في العدول عن دمشق إلى بغداد ولبني مرين بالمغرب في العدول عن مراكش إلى فاس‏.‏ وبالجملة فاتخاذ الأمر الرابع‏:‏ أن الدولة المتجددة إذا غلبت على الدولة السابقة لا بد فيها من تتبع أهل الدولة السابقة وأشياعها بتحويلهم إلى قطر آخر تؤمن فيه غائلتهم على الدولة‏.‏ وأكثر أهل المصر الكرسي أشياع الدولة‏.‏ إما من الحامية الذين نزلوا به أول الدولة أو من أعيان المصر لأن لهم في الغالب مخالطة للدولة على طبقاتهم وتنوع أصنافهم‏.‏ بل أكثرهم ناشىء في الدولة فهم شيعة لها‏.‏ وإن لم يكونوا بالشوكة والعصبية فهم بالميل والمحبة والعقيدة‏.‏ وطبيعة الدولة المتجددة محو آثار الدولة السابقة فتنقلهم من مصر الكرسي إلى وطنها المتمكن في ملكتها‏.‏ فبعضهم على نوع التغريب والحبس وبعضهم على نوع الكرامة والتلطف بحيث لا يؤدي إلى النفرة حتى لا يبقى في مصر الكرسي إلا الباعة والهمل من أهل الفلح والعيارة وسواد العامة‏.‏ وينزل مكانهم في حاميتها وأشياعها من يشتد به المصر‏.‏ وإذا ذهب من مصر أعيانه على طبقاتهم نقص ساكنه وهو معنى اختلال عمرانه‏.‏ ثم لا بد أن يستجد عمران آخر في ظل الدولة الجديدة وتحصل فيه حضارة أخرى على قدر الدولة‏.‏ وإنما ذلك بمثابة من يملك بيتاً داخله البلى والكثير من أوضاعه في بيوته ومرافقه لا توافق مقترحه وله قدرة - على أوصاف مخصوصة على تغيير تلك الأوضاع وإعادة بنائها على ما يختاره ويقترحه فيخرب ذلك البيت ثم يعيد بناءه ثانياً‏.‏ وقد وقع من ذلك كثير في الأمصار التي هي كراسي لذلك وشاهدناه‏.‏ وعلمناه‏.‏ والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة أن الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها‏.‏ وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر‏.‏ فالدولة دون العمران لا تتصور والعمران دون الدولة والملك متعذر بما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك‏.‏ أما الشريعة أو الملكية وهو معنى الدولة وإذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما مؤثر في اختلال الآخر كما كان عدمه مؤثراً في عدمه‏.‏ والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم أو بني أمية أو بني العباس كذلك‏.‏ وأما الدول الشخصية مثل دولة أنو شروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد فأشخاصها متعاقبة على العمران حافظة لوجوده وبقائه وقريبة الشبه بعضها من بعض فلا تؤثر كثير اختلال‏.‏ لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران إنما هي العصبية والشوكة وهي مستمرة مع أشخاص الدول‏.‏ فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران فأذهبت أهل الشوكة بأجمعهم عظم الخلل كما قررناه أولاً‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

  الفصل العشرون دون بعض

وذلك أنه من البين أن أعمال أهل المصر يستدعي بعضها بعضاً لما في طبيعة العمران من التعاون‏.‏ وما يستدعي من الأعمال يختص ببعض أهل المصر فيقومون عليه ويستبصرون في صناعته ويختصون بوظيفته ويجعلون معاشهم فيه ورزقهم منه لعموم البلوى به في المصر والحاجة إليه وما لا يستدعي في المصر يكون غفلاً إذ لا فائدة لمنتحله في الاحتراف به‏.‏ وما يستدعي من ذلك لضرورة المعاش فيوجد في كل مصر كالخياط والحداد والنجار وأمثالها‏.‏ وما يستدعي لعوائد الترف وأحواله فإنما يوجد في المدن المستبحرة في العمارة الآخذة في عوائد الترف والحضارة مثل الزجاح والصائغ والدهان والطباخ والصفار والسفاج والفراش والذباح وأمثال هذه وهي متفاوتة‏.‏ قدر ما تريد عوائد الحضارة وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع فتوجد بذلك المصر دون غيره‏.‏ ومن هذا الباب الحمامات لأنها إنما توجد في الأمصار مستحضرة المستبحرة العمران لما يدعو إليه الترف والغنى من التنعم‏.‏ ولذلك لا يكون في المدن المتوسطة‏.‏ وإن نزع بعض الملوك والرؤساء إليها فيختطها ويجري أحوالها‏.‏ إلا أنها إذا لم تكن لها داعيه من كافة الناس فسرعان ما تهجر وتخرب وتفر عنها القومة لقلة فائدتهم ومعاشهم منها‏.‏ والله يقبض ويبسط‏.‏ في وجود العصبية في الأمصار وتغلب بعضهم علي بعض من البين أن الالتحام والاتصال موجود في طباع البشر وإن لم يكونوا أهل نسب واحد إلا أنه كما قدمناه أضعف مما يكون بالنسب وأنه تحصل به العصبية بعضاً مما تحصل بالنسب‏.‏ وأهل الأمصار كثير منهم ملتحمون بالصهر يجذب بعضهم بعضاً إلى أن يكونوا لحماً لحماً وقرابة قرابة تجد بينهم من العداوة والصداقة ما يكون بين القبائل والعشائر مثله فيفترقون شيعاً وعصائب‏.‏ فإذا نزل الهرم بالدولة وتقلص ظل الدولة عن القاصية احتاج أهل أمصارها إلى القيام على أمرهم والنظر في حماية بلدهم ورجعوا إلى الشورى وتميز العلية عن السفلة‏.‏ والنفوس بطباعها متطاوله على الغلب والرياسة فتطمح المشيخة - لخلاء الجو من السلطان والدولة القاهرة - إلى لاستبداد وينازع كل صاحبه ويستوصلون بالأتباع من الموالي والشيع والأحلاف‏.‏ ويبذلون ما في أيديهم للأوغاد والأوشاب فيعصوصب كل لصاحبه ويتعين الغلب لبعضهم فيعطف على أكفائه ليغض من أعنتهم‏.‏ ويتتبعهم بالقتل أو التغريب حتى يخضد منهم الشوكات النافذة ويقلم الأظفار الخادشة‏.‏ ويستبد بمصره أجمع‏.‏ ويرى أنه قد استحدث ملكاً يورثه عقبه وربما يسمو بعض هؤلاء إلى منازع الملوك الأعاظم أصحاب القبائل والعشائر والعصبيات والزحوف والحروب والاقطار والممالك فيتحلون بها من الجلوس على السرير واتخاذ الآلة وإعداد المواكب للسير في أقطار البلد والتختم والتحية والخطاب بالتهويل وما يسخر منه من يشاهد أحوالهم لما انتحلوه من شارات الملك التي ليسوا لها بأهل‏.‏ إنما دفعهم إلى ذلك تقلص الدولة والتحام بعض القرابات حتى صارت عصبية‏.‏ وقد يتنزه بعضهم عن ذلك ويجري على مذاهب السذاجة فراراً من التعريض بنفسه للسخرية والعبث‏.‏ وقد وقع هذا بإفريقية لهذا العهد في آخر الدولة الحفصية لأهل بلاد الجريد من طرابلس وقابس وتؤزر ونفطة وقفصة وبسكرة والزاب وما إلى ذلك‏.‏ سموا إلى مثلها عند تقلص ظل الدولة عنهم منذ عقود من السنين فاستغلبوا على أمصارهم واستبدوا بأمرها على الدولة في الأحكام والجباية وأعطوا طاعة معروفة وصفقة ممرضة وأقطعوها جانباً من الملاينة والملاطفة والانقياد وهم بمعزل عنه‏.‏ وأورثوا ذلك أعقابهم لهذا العهد‏.‏ وحدث في خلقهم من الغلظة والتجبر ما يحدث لأعقاب الملوك وخلفهم‏.‏ ونظموا أنفسهم في عداد السلاطين على قرب عهدهم بالسوقة حتى محا ذلك مولانا أمير المؤمنين أبو العباس وانتزع ما كان بأيديهم من ذلك كما نذكرة في أخبار الدولة‏.‏ وقد كان مثل ذلك وقع في آخر الدولة الصنهاجية واستقل بأمصار الجريد أهلها واستبدوا على الدولة حتى انتزع ذلك منهم شيخ الموحدين وملكهم عبد المؤمن بن علي ونقلهم كلهم من إمارتهم بها إلى المغرب ومحا من تلك البلاد آثارهم كما نذكر في أخباره‏.‏ وكذا وقع بسبتة لآخر دولة بني عبد المؤمن‏.‏ وهذا التغلب يكون غالباً في أهل السروات والبيوتات المرشحين للمشيخة والرياسة فى المصر وقد يحدث التغلب لبعض السفلة من الغوغاء والدهماء‏.‏ وإذا حصلت له العصبية والالتحام بالأوغاد لأسباب يجرها له المقدار فيتغلب على المشيخة والعلية إذا كانوا فاقدين للعصابة‏.‏ والله سبحانه وتعالى غالب على أمره‏.‏

  الفصل الثاني والعشرون في لغات أهل الأمصار

إعلم أن لغات أهل الأمصار إنما تكون بلسان الأمة أو الجيل الغالبين عليها أو المختطين لها ولذلك كانت لغات الأمصار الإسلامية كلها بالمشرق والمغرب لهذا العهد عربية وإن كان اللسان العربي المضري قد فسدت ملكته وتغير إعرابه‏.‏ والسبب في ذلك ما وقع للدولة الإسلامية من الغلب على الأمم والدين والملة صورة للوجود وللملك‏.‏ وكلها مواد له والصورة مقدمة على المادة والدين إنما يستفاد من الشريعة وهي بلسلن العرب لما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي فوجب هجر ما سوى اللسان العربي من الألسن في جميع ممالكها‏.‏ واعتبرذلك في نهي عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال‏:‏ إنها خب أي مكر وخديعة‏.‏ فلما هجر الدين اللغات الأعجمية وكان مان القائمين بالدولة الإسلامية عربياً هجرت كلها في جميع ممالكها لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب‏.‏ وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك‏.‏ وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة‏.‏ ثم فسد اللسان العربي بمخالطتها في بعض أحكامه وتغير أواخره إن كان بقي فى الدلالات على أصله وسمي لساناً حضرياً في جميع أمصار الإسلام‏.‏ وأيضاً فأكثر أهل الأمصار في الملة لهذا العهد من أعقاب العرب المالكين لها الهالكين في ترفها بما كثروا العجم الذين كانوا بها وورثوا أرضهم وديارهم‏.‏ واللغات متوارثة فبقيت لغة الأعقاب على حيال لغة الآباء وإن فسدت أحكامها بمخالطة الأعجام شيئاً فشيئاً‏.‏ وسميت لغتهم حضرية منسوبة إلى أهل الحواضر والأمصار بخلاف لغة البدو من العرب فإنها كانت أعرق في العروبية‏.‏ ولما تملك العجم من الديلم والسلجوقية بعدهم بالمشرق وزناتة والبربر بالمغزب وصار لهم ملك والاستيلاء على جميع الممالك الإسلامية فسد اللسان العربي لذلك وكاد يذهب لولا ما حفظه من عناية المسلمين بالكتاب والسنة اللذين بهما حفظ الدين وصار ذلك مرجحاً لبقاء اللغة المضرية من الشعر والكلام إلا قليلاً بالأمصار عربية‏.‏ فلما ملك التتر والمغول بالمشرق ولم يكونوا على دين الإسلام ذهب ذلك المرجح وفسدت اللغة العربية على الإطلاق ولم يبق لها رسم في الممالك الإسلامية بالعراق وخراسان وبلاد فارس وأرض الهند والسند وما وراء النهر وبلاد الشمال وبلاد الروم وذهبت أساليب اللغة العربية من الشعر والكلام إلا قليلاً يقع تعليمه صناعياً بالقوانين المتدارسة من علوم العرب وحفظ كلامهم لمن يسره الله تعالى لذلك‏.‏ وربما بقيت اللغة العربية المضرية بمصر والشام والأندلس والمغرب لبقاء الدين طالباً لها فانحفظت بعض الشيء‏.‏ وأما في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتى إن كتب العلوم صارت تكتب باللسان العجمي وكذا تدريسه في المجالس‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏ والله مقدر الليل والنهار‏.‏ صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين‏.‏

  الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل

  الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما

وأن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية اعلم أن الإنسان مفتقر بالطبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوئه إلى أشده إلى كبره ‏"‏ والله الغني وأنتم الفقراء ‏"‏‏.‏ والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتن به عليه في غير ما آية من كتابه فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ‏"‏ وسخر لكم الشمس والقمر وسخر لكم البحر وسخر لكم الفلك وسخر لكم الأنعام‏.‏ وكثير من شواهده‏.‏ ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف‏.‏ وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك‏.‏ وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض‏.‏ فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاة الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فابتغوا عند الله الرزق ‏"‏‏.‏ وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله‏.‏ إلا أنها إنما تكون معينة ولا بد من سعيه معها كما يأتي فتكون له تلك المكاسب معاشاً إن كانت بمقدار الضرورة والحاجة ورياشاً ومتمولاً إن زادت على ذلك‏.‏ ثم إن ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ‏"‏‏.‏ وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمى بالنسبة إلى المالك رزقاً والمتملك منه حنيئذ بسعي العبد وقدرته يسمى كسباً‏.‏ وهذا مثل التراث فإنه يسمى بالنسبة إلى الهالك كسباً ولا يسمى رزقاً إذ لم يحصل له به منتفع وبالنسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمى رزقاً‏.‏ وهذا حقيقة مسمى الرزق عند أهل السنة‏.‏ وقد اشترط المعتزلة في تسميته رزقاً أن يكون بحيث يصح تملكه وما لا يتملك عندهم فلا يسمى رزقاً‏.‏ وأخرجوا الغصوبات والحرام كله عن أن يسمى شيء منها رزقاً‏.‏ والله تعالى يرزق الغاصب والظالم والمؤمن والكافر ويختص برحمته وهدايته من يشاء‏.‏ ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع ثم اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد إلى التحصيل فلا بد في الرزق من سعي وعمل ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ فابتغوا عند الله الرزق ‏"‏‏.‏ والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه فالكل من عند الله‏.‏ فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول‏.‏ لأنه إن كان عملاً بنفسه مثل الصنائع فظاهر وإن كان مقتنى من الحيوان أو النبات أو المعدن فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع‏.‏ ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب‏.‏ وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة‏.‏ وإذا تقرر هذا كله فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه هو قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هنالك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية‏.‏ وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها‏.‏ مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل إلا أن العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر‏.‏ وإن كان من غير الصنائع فلا بد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها‏.‏ وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصة من القيمة عظمت أو صغرت‏.‏ وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ فى أسعار الحبوب كما قدمناه لكنه خفي في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة فلا يشعر به إلا القليل من أهل الفلح‏.‏ فقد تبين أن المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال الإنسانية وتبين مسمى الرزق وأنه المنتفع به‏.‏ فقد بان معنى الكسب والرزق وشرح مسماهما‏.‏ واعلم أنه إذا فقدت الأعمال أو قلت بانتقاص العمران تأذن الله برفع الكسب‏.‏ ألا ترى إلى الأمصار القليلة الساكن كيف يقل الرزق والكسب فيها أو يفقد لقلة الأعمال الإنسانية‏.‏ وكذلك الأمصار التي يكون عمرانها أكثر يكون أهلها أوسع أحوالاً وأشد رفاهية كما قدمناه قبل‏.‏ ومن هذا الباب تقول العامة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنها قد ذهب رزقها حتى أن الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر لما أن فور العيون إنما يكون بالإنباط والامتراء الذي هو بالعمل الإنساني كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة كما يجف الضرع إذا ترك امتراؤه‏.‏ وانظره في البلاد التي تعهد فيها العيون لأيام عمرانها ثم يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنها لم تكن‏.‏ ‏"‏ والله يقدر الليل والنهار ‏"‏‏.‏ في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه اعلم أن المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرزق والسعي في تحصيله وهو مفعل من العيش‏.‏ كأنه لما كان العيش الذي هو الحياة لا يحصل إلا بهذه جعلت موضعاً له على طريق المبالغة‏.‏ ثم إن تحصيل الرزق وكسبه‏:‏ إما أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمى مغرماً وجباية وإما أن يكون من الحيوان الوحشي باقتناصه وأخذه برميه من البر أو البحر ويسمى اصطياداً وإما أن يكون من الحيوان الداجن باستخراج فضوله المتصرفة بين الناس في منافعهم كاللبن من الأنعام والحرير من دوده والعسل من نحله أو يكون من النبات في الزرع والشجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته‏.‏ ويسمى هذا كله فلحاً‏.‏ وإما أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانئة‏:‏ إما في مواد بعينها وتسمى الصنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسية وأمثال ذلك أو في مواد غير معينة وهي جميع الامتهانات والتصرفات وإما أن يكون الكسب من البضائع وإعدادها للأعواض إما بالتقلب بها في البلاد أو احتكارها وارتقاب حوالة الأسواق فيها‏.‏ ويسمى هذا تجارة‏.‏ فهذه وجوه المعاش وأصنافه وهي معنى ما ذكره المحققون من أهل الأدب والحكمة كالحريري وغيره فإنهم قالوا‏:‏ ‏"‏ المعاش إمارة وتجارة وفلاحة وصناعة ‏"‏‏:‏ فأما الإمارة فليست بمذهب طبيعي للمعاش فلا حاجة بنا إلى ذكرها وقد تقدم شيء من أحوال الجبايات السلطانية وأهلها في

  الفصل الثاني وأما الفلاحة والصناعة والتجارة فهي وجوه طبيعية للمعاش

أما الفلاحة فهي متقدمة عليها كلها بالذات إذ هي بسيطة وطبيعية فطرية لا تحتاج إلى نظر ولا علم ولهذا تنسب قي الخليقة إلى آدم أبي البشر وأنه معلمها والقائم عليها إشارة إلى أنها أقدم وجوه المعاش وأنسبها إلى الطبيعة‏.‏ وأما الصنائع فهي ثانيتها ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار ولهذا لا توجد غالباً إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدووثان عنه‏.‏ ومن هذا المعنى نسبت إلى إدريس الأب الثاني للخليقة فإنه مستنبطها لمن بعده من البشر بالوحي من الله تعالى‏.‏ وأما التجارة وإن كانت طبيعية في الكسب فالأكثر من طرقها ومذاهبها إنما هي تحيلات في الحصول على ما بين القيمتين في الشراء والبيع لتحصل فائدة الكسب من تلك الفضلة‏.‏ ولذلك أباح الشرع فيه المكاسبة لما أنه من باب المقامرة إلا أنه ليس أخذاً لمال الغير مجاناً فلهذا اختص بالمشروعية‏.‏ والله أعلم‏.‏